
على أرض الخيال المزعُوم وفي يومٍ عشوائي من أيامِ السنة الهجرية وبينما يسيرُ كل من في المعمورة كما خطط لهُ أن يعيش، التقى العقلُ والعاطفة لإثباتِ حقيقةٍ واحدة غير قابلة للنقض، في نهار يوم مقدس لدى عقيدة كل منهما وبعد إنتهاء أداء فروضهما الدينية، وتحت شجرةٍ مترامية الأطراف وبينما كان حفيفُ الشجر هي الموسيقى الوحيدة التي تشغلُ هذا المكان، كان العقل يذرّعُ تلك الأرض الخضراء النضرة جيئة وذهابًا، وبينما هو يدندن بنغماتٍ متفاوتة غير مفهومة، إذا به يصطدمُ وتنزلقُ ساقه بجذع شجرة قد قُطعت قبل أن تخضّر ثمارها ويتغنى أكليها بها، لم يستفق العقل إلا على آلام انتشرت حول الساق وعند مقدمة القدم وقد جعلتهُ طريح هذه الأرض.
ضحكاتٍ متتابعة استدار على إثرها العقل وبصوتٍ ناعمٌ و رقيق قد قيل:غير معقول! هذا أنت أيها الجبارُ المتكبر، ولكنك تتألم هنا هذه المرة؟ فكيف تمثل دورًا لا يُشبهك؟ إنك دائمًا كما عهدتُك تعيش منصاعًا لأومراي، بينما لايوجد إنسيٌ إلا وقد هجرك في نهاية الأمر!
يرد العقلُ بينما يفتعل ابتسامة الرضا:الحمدلله خلتكُ قد تصيرتي شيئًا لم أعرفه بعد، لكن ها أنا وقد وصلتُ إليك بعد هذه الآلآم المبرحة، أخبريني ياعاطفة ماالمضحك من شقائي؟
ترد الأخرى بينما تداعبُ خصلات شعرها بيدها بحركة لا إرادية: ألم أقل لك ياعقل من قبل بأني أتلذذ برؤيتك تتخبط يمينًا وشمالاً بين قرارات هوجاء وأخرى من بنات أفكارك، ولكنك وبالرغم من كل هذا لك مدّعين كُثر، يحاولون بكل مالديهم التسلق على أكتافك.
امتعض العقلُ وهو يسمعُ العاطفة وقد رشقته بكلماتٍ جارحة: ألم يكفيك ما ألحقتي بالعالم من ضرر؟ أتعتقدين بأنك تمارسين دورك بينما أنتِ جاهلة بحجم الدمار التي خلفتها ذبذباتك في هذه الكائنات المسكينة التي أمست ضريرةً بأمراض عصر لا علاج لها؟ هل أنتي سعيدة أيتها البلهاء فالجميعُ يقتات على حزنك وشتات حالك، بينما السعادة هي مادة اللاشعور وأجزمُ بأنها لحظية وتكاد توجد كما أن لا أبدية لها، أنتي ضريرة ولا ترين الحقيقة كما ينبغي، دعيني لا أعبثُ بك أكثر وأؤكد لك بأن الجميع يهربُ منك دائمًا إليّ.
تجهّم وجهُ العاطفة بعد ذلك الوابل من الكلمات ولكنها استعادت طاقتها بضحكة ساخرة أتبعتها قائلة: أتنكر بأنك من سحب الضعفاء والمساجين إلى المصحات العلاجية والسجون! أنت داءٌ لا دواء ولا خلاص منه، إنك يا أيها العقل أساسُ الإنسان ومصدره ولكنك تنهيه وتجعله بلا وجود وبلا هوية تُذكر.
انكفأ العقُل وقد غطا كلتا يديه بوجهه قائلًا: اسمعي كلماتي هذه وإن كانت جارحة، فهي ستفيدك حتمًا أنتِ كمن حجب الحقيقة عن عينيه وتخيّل زيف الخيال الأحمق يتقهقر أمامه، أنتِ مخدوعة وتخدَعين ويعلم الله حجمَ مغالاتك وجُبنك، إنك تضاعفين المشاعر والأحاسيس حتى تتكون سلسلة جبال قاهرة لا تردع، إنك على قول القائل:”تكذبين كذبتك وتصدقينها”.
تسمرت العاطفة مذهولةً بعدما أدركت حقيقتها أمامها لقد كادت تنهارُ بلا رحمة على هذه الأرض ولكنها قاطعت العقل قائلة: كفاك! أيها الخائن لا أخفيك حقيقة أنني أتهاوى الآن على هذه الأرض ولا قوة لي بالصمود أكثر، أنا أنهار الآن ياعقل.
ولم تكد تكملُ العاطفة جملتها الأخيرة حتى تهاوت بجسدها على الأرض طريحة انفعالاتها الزائدة، لم يرتبك العقلُ كثيرًا، لقد توقف وببلاهة منه قام العقل بصفعها على وجهها مرتين حتى استفاقت وهي ترميه بكلماتٍ نابية: أيه المشعوذ المغرور ها أنت وقد جرتك العادةُ إليّ!
ارتفع صوتُ العقل بضحكات لم يستطع عبثًا كتمانها: يامجنونة إنك تريني بمنظارك الذي لن أستطيع ولو قطعتُ الأرض مشيًا أن أنظره كما تنظريني به، لم يدفعني شئٌ إليك غير مودة أفكاري وحب الاستطلاع ياعاطفة، أنا لستُ من يحكمني لدي أجزاءٌ معقدة وأخرى متشعبة لم يستطع البشر حتى الآن محاولة الوصول إليها، لقد أفنى العلماءُ حياتهم بحثًا عن الأسرار بداخلي ولكنّ الإنسان لم يعرف أسراري حتى الآن، هل تتخيلي ذلك؟ إنني أتحرك بحركة ثابتة و مرسومة المعالم، أنا الأحجياتُ بداخلي صعبة التركيب لذلك الإنسان على بساطة أفكاره الآن غيرُ قادرٍ على فهمي بعد! ماذا عنك ياعاطفة؟
اتكأت العاطفة مستندةً على ظهرها بجذع الشجرة الضخمة وكأنّ قوة الأخيرة الهائلة قد عبثت بها ما جعلها تسترسلُ بكلامها قائلة: أنا دورةُ حياة الإنسان، أينما ولّى وجهه فأنا أتبعه لا أتبع قواعد محددة ولا قوانين صارمة ولكنني أستلهمُ من اللحظة وأقتاتُ عليها حياتي، إنها أنا، بإمكانك أن تقول أن الوقت هو القائد الذي يحركني ولا يدع لي مجالاً للتوقف، أنا مسيرةً ياعقل لا مجال لقيادة التحكم داخلي، أجبني ياعقلُ، لماذا تعيشُ مختلفًا عني؟
أدارَ العقلُ وجههُ ناحيتها مطأطأ رأسه وقال: خُلقنا مختلفين لننسجم معًا بجانب بعضنا، تؤدين دورًا بينما أكمل مانقص منك أو تركتيه لي، أفيدكُ علمًا بأن لا مجال للهرب مني فأنا أتبعك حيثما وجهتي، وأنصحك أن لا تتركي بابي مواربًا وإلا فستحملين بمسؤوليات لا طاقة لك بها ولا جمل، اهربي ياعاطفة إلى حيثُ تنمين دائمًا، ولا تهربين إلي فلا نجاة مني أبدًا، ستغرقين في بحر لا عمق له، وستندمين بأنكِ تركتِ الدور الذي خلقِ لأجله!
ارتعبتْ العاطفة من تعاويذِ العقل التي لا تنتهي، ما إن سكنت هادئة حتى بدأت ضرباتُ قلبها بالخفقان سريعًا، وحاولت بحثًا تحسس الماديات بجانبها حتى تضرب العقل بها ولكنها قررت الركض بعيدًا خلف لاشئ، استجمعت قواها وأخذت تركض تسابقها ذرات الهواء العليل حتى أوقفها لهاثها عند حجر صغير، التقطتهُ بلا أدنى فكرة تذكر، وقبضت بها على يدها طويلًا.
****
تبعها العقلُ مغتاظًا وقد قطب حاجبيه، ولم يعرف بعدُ ما الذي تفعلهُ بهروبها منه، قبض على ذراعها بكل قوته وقد حذرها بقوله: حذارِ من تصرفاتكِ ياعاطفة، لا تجعلي مجرى التيار يجرفك بعيدًا عن مسارك، ما أبهاك وأنتي على طبيعتك، تترائين أمامي كالحملِ الوديع الذي لايود مبارحة أرضه، كفاك غرورًا بنفسك وتوقفي، هيا هذا أمر!
صرخت العاطفة صرخةً تقطعت لها أوتار العقلُ اللاوعي بداخله حتى بدأ يترنح محاولاً استعادة وعيه، ولكنها العاطفة من جديد وقد أمسكت به حتى تسنده عليها، وقالت: أنا اسفة ياعقل لقد أكثرت اللوم علي، سممتني كلماتك حتى أصبحتُ غير قادرة على مواصلة مهامي الآن أنا أستقيل من مشاعري و أحاسيسي، لا أريد الحياة أنا جبانة ولا أكترث أرجوك، فخذ عني مالا أستطيع تحمله.
بعينين غائرتين وقف العقلُ مندهشًا تصرف العاطفة وقد انهارت بلا سبب يعقله ولا يستوعب مكنوناته الداخلية، لمح سريعًا ذلك الحجرُ الصغيرُ بيدها فتابعَ قائلاً: هذا أنتي لم تتغيري، أجيبي الآن دعينا ننهي كل هذا أحتاجُ جوابًا واحدًا صادقًا لماذا تمسكين هذا الحجر؟
خنقت العبرات حجنرة العاطفة وسقط ذلك الحجر غفلةً من يدها وانفجرت بالبكاءِ كالطفل الذي قرر أخيرًا أن يستسلم بإنهاء فعلته، أخذ العقلُ بيدها وضغط عليها طويلاً قائلاً: ألسنا بحاجة فعلية للسلام بيننا، دوركِ لن يتغير عندي مهما فعلتي ستظلين كما كنتِ دائمًا وسأكون أنا الذي ينتظرك في النهاية حتى تدعيني أكمل عنك هذا العبء الثقيل.
تجمدتْ العاطفة وتصلب العقلُ كما لم يكونا من قبل وعلى إثرها انطبعت واحدة من أسمى العلامات على وجه التاريخ لقد التقى العقل والعاطفة بقبلة واحدة وانقطع الحديثُ بينهما.
صورة التدوينة بواسطة: الرسام النمساوي غوستاف كليمت